فصل: تفسير الآيات (60- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (60- 64):

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قدم الكلام على البعث، واستدل عليه بابتداء الخلق، ثم ذكر بعض أحواله، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثال، وصرف من وجوه الاستدلال، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة، عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة، فلكل شيء عنده كتاب، وكل قضاء بقدر وحساب، فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبه، وجعله سبحانه له الحوت آية وموعدًا للقائه، ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثقة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه، وظهور برهانه، ومن إرشاد من استنكف أن يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه- وهو كليم الله- أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن لم يخبركم فليس بنبي» الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئًا أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جميع ما فعله الخضر عليه السلام، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أو نقرتين «ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر» وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعًا للخضر عليه السلام، تكذيبًا لهم في ادعائهم أنه ليس أحد أعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره، ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتًا وحسدًا: لو كان نبيًا ما قال: أخبركم غدًا، وتأخر عن ذلك. بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام، فقال تعالى عاطفًا على قوله سبحانه: {وإذ قلنا للملائكة}: {وإذ} أي واذكر لهم حين {قال موسى} أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل، أي قوله الذي كان في ذلك الحين {لفتاه} يوشع بن نون عليهما السلام: {لا أبرح} أي لا أزال سائرًا في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله- كما دل عليه ما يأتي {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ {أو أمضي حقبًا} إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعدًا لي في لقائه؛ والحقب- قال في القاموس- ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون- انتهى.
وما أنسب التوقيت بمجمع بحري الماء بمجمع بحري العلم وتزودهما بالنون الذي قرنه الله بالقلم وما يسطرون، وعين الحياة لأن العلم حياة القلوب، فسارا وتزودا حوتًا مشويًا في مكتل كما أمر به، فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع {فلما بلغا مجمع بينهما} أي البحرين، فلم يكن هناك بين أصلًا لصيرورتهما شيئًا واحدًا {نسيا حوتهما} فلم يعلم موسى عليه السلام شيئًا من حاله ونسي أن يسأل عنه، وعلم يوشع عليه السلام بعض حاله فنسي أن يذكر ذلك له {فاتخذ} أي الحوت معجزة في معجزة {سبيله} أي طريقه الواسع الواضح {في البحر سربًا} أي خرقًا في الماء غير ملتئم، من السرب الذي هو جحر الوحشي، والحفير تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء الحائط.
وقد ورد في حديثه في الصحيح أن الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء، فصار طاقًا لا يلتئم.
ويوشع عليه السلام ينظر ذلك، وكأن المجمع كان ممتدًا، فظن موسى عليه السلام أن المطلوب أمامه أو ظن أن المراد مجمع آخر فسار {فلما جاوزا} أي موسى وفتاه عليهما السلام ذلك الموضع من المجمع تعب، ولم يتعب حتى جاوز المكان الذي أمر به معجزةً أخرى، فلما جاع وتعب {قال لفتاه ءاتنا} أي أحضر لنا {غداءنا} أي لنتقوى به على ما حصل لنا من الإعياء، ولذلك وصل به قوله تعالى: {لقد لقينا من سفرنا} أي الذي سافرناه في هذا اليوم خاصة، ولذلك أشار إليه بأداة القرب فقال تعالى: {هذا نصبًا} وكان الحوت زادهم فلم يكن معه، فكأنه قيل: فما كان عن أمره؟ فقيل: {قال} لموسى عليه السلام معجبًا له: {أرءيت} ما دهاني؟ {إذ أوينا إلى الصخرة} التي بمجمع البحرين {فإني} أي بسبب أني {نسيت الحوت} أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك؛ ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملًا وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى: {وما أنسانيه} مع كونه عجيبًا {إلا الشيطان} بوساوسه.
ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضروريًا، ذكر نسيانه، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى: {أن أذكره} لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر {واتخذ سبيله} أي طريقه الذي ذهب فيه {في البحر عجبًا} وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتًا لطاعة، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية، وحفظ الماء منجابًا على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان، وقوله تعالى: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} [النحل: 100] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي، وقد كان في هذه القصة خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه، وإمساك الماء عن مدخله، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك.
أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي- وهو جنبه- فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد- رضى الله عنهما ـ، قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء- فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها، فأمر بأخذ تلك الشاة منها ثم قال: يا أسيم- وكان إذا دعاه رخمه! ناولني ذراعًا، وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها، ثم قال: يا أسيم! ناولني ذراعًا! فناولته، ثم قال: يا أسيم! ناولني ذراعًا! فقلت: يا رسول الله! إنما هما ذراعان وقد ناولتك، فقال: والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعًا ما قلت لك: ناولني ذراعًا» فقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لو سكت أوجد الله لها ذراعًا ثم ذراعًا وهكذا، وقوله الحق الذي لا فرق بينه وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة.
وأما حياة الحوت المشوي فقد مضى عند {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية المسمومة، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق، وكذا حنين الجذع، وسلام الحجر، وتسبيح الحصا، وتأمين أسكفة الباب وحوائط البيت ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حيًا، فقد روى البيهقي في الدلائل عن عمرو بن سواد قال: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيًا ما أعطى محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى؟ فقال: أعطى محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجذع- الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيىء له المنبر، فلما هيىء له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته- فهذا أكبر من ذاك- انتهى.
على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته.
وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته، ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق، وقد روى البيهقي في ذلك ما فيه آية من الإحياء بسند منقطع عن أنس- رضى الله عنهم- قال: كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أيامًا ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله قال: ائت أمه فأعلمها، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما، ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعًا، وخلعت الأوثان زهدًا، وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال: فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى هلكت أمه؛ ثم جهز عمر بن الخطاب- رضى الله عنهم ـ- يعني جيشًا، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي، قال: وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد تدروا بنا، فعفوا آثار الماء، قال: وكان حر شديد، فجهدنا العطش ودوابنا، وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئًا، فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحًا وأنشأ سحابًا فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب، فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجًا في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم! ثم قال: أجيزوا باسم الله! فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فأصبنا العدو غيلة فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا.
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار ن الحسن بن علي بن عفان أنبأنا ابن نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه، قال: انتهينا إلى دجلة وهي مادة، والأعاجم خلفها، فقال رجل من المسلمين: بسم الله، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء، فقال الناس: بسم الله بسم الله، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فلما نظر إليهم الأعاجم قالوا: ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم، فما فقدوا إلا قدحًا كان معلقًا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها.
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أنا أبو محمد عبد الله بن محمد السمذي ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا: ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى الدجلة وهي ترمي بالخشب من مدها، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئًا فندعو الله- قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.
وفي هذا الأمر من هذه القصة قاصمة للسائلين والآمرين لهم بالسؤال، لأن المراد- والله أعلم- أن هذا الأمر وقع لنبي هؤلاء المضلين، فمر قريشًا أن يسألوهم عن هذه القصة، فإن أخبروهم عنها بمثل ما أخبرتهم فصدقوهم، لزمهم أن يؤمنوا بالبعث لأمر هذا الحوت الذي أحياه الله بعد أن كان مشويًا وصار كثير منه في البطون، وإن لم يصدقوهم في هذا وصدقوهم في غيره مما يتعنتون به عليك فهو تحكم، وإن كانوا يتهمونهم في كل أمر كان سؤالهم لهم عبثًا، ليس من أفعال من يعقل، فكأنه قيل: فما قال موسى حينئذ؟ فقيل: {قال} منبهًا على أن ذلك ليس من الشيطان، وإنما هو إغفال من الله تعالى بغير واسطة ليجدا العلامة التي أخبره الله بها كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إنى لأنسى- أي ينسيني الله تعالى- لأسن» {ذلك} أي الأمر العظيم من فقد الحوت {ما كنا نبغ} أي نريد من هذا الأمر المغيب عنا، فإن الله تعالى جعله موعدًا لي في لقاء الخضر {فارتدا على ءاثارهما} يقصانها {قصصًا} وهذا يدل على أن الأرض كانت رملًا، لا علم فيها، فالظاهر- والله أعلم- أنه مجمع النيل والملح الذي عند دمياط، أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركبا في سفينته للتغذية- كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح، ومن المشهور في بلاد رشيد أن الأمر كان عندهم، وأن عندهم سمكًا ذاهب الشق يقولون: أنه من نسل تلك السمكة- والله أعلم. اهـ.